الخميس, نوفمبر 21, 2024
التحليل التفاعلي

10 تكوين الوقت

الباب الثاني
تمهيد؛ تكوين الوقت

 

 بعد أن اتفقنا على أن رعاية الأطفال، ونظيرها الرمزي لدى البالغين وهو التقدير، لهما قيمة في بقاء الإنسان، يأتي سؤال وهو: ماذا بعد ذلك؟ في حياتنا اليومية، ماذا يستطيع الناس فعله بعد تبادل التحية، سواء كانت تلك تحية ودية مثل “أهلاً” أو طقساً شرقياً قد يأخذ عدة ساعات؟ بعد التعطش للمؤثر والتعطش للتقدير، يأتي “التعطش للتكوين”.  هناك مشكلة دائمة عند المراهقين وهي: “ماذا أقول له/لـها الآن؟” وحتى بالنسبة للكثير من غير المراهقين لا شيء أكثر إزعاجاً من الفجوة الاجتماعية؛ فترة من الصمت، في وقت غير مـُكوَّن حيث لا يجد أحد شيئاً يقوله أكثر تشويقاً من: “ألا تعتقد أن الجدران متعامدة الليلة؟”. مشكلة الإنسان الأزلية هي كيفية تنظيم ساعات النوم والاستيقاظ، وبهذا المعنى الوجودي؛ يكون الغرض من كل الأنشطة الاجتماعية للإنسان هو توفير الدعم المشترك لحل تلك المشكلة.

     يمكن تسمية الجانب التنفيذي من تكوين الوقت بــ “البرمجة”، ولها ثلاثة نواحي: مادية، واجتماعية، وفردية. الطريقة الأكثر شيوعاً وملائمةً وراحةً ومنفعةً لتكوين الوقت هي من خلال مشروع مُصمم للتعامل مع مادة الواقع الخارجي؛ ما يُعرف عامةً بالــ “عمل”. هذا المشروع يسمى تقنياً “نشاط”، فالمصطلح “عمل” غير دقيق هنا، لأن هناك نظرية عامة في علم النفس الاجتماعي تعتبر الاتصال الاجتماعي صورة من صور العمل.

    تنشاً البرمجة المادية من تقلب الأحوال أثناء التعامل مع الواقع الخارجي، وهي تنال من اهتمامنا هنا فقط بقدر ما توفره الأنشطة من مجال للملاطفة، والتقدير وغيرها من الصور المعقدة للاتصال الاجتماعي. البرمجة المادية ليست أساساً مشكلة اجتماعية، فهي في الحقيقة تعتمد على معالجة المعلومات. عملية بناء مركب تعتمد على سلسلة طويلة من القياسات والحسابات وتقدير الاحتمالات؛ كذلك أي اتصال اجتماعي يجب أن يتم بنائه على تلك الأساسات ليكتمل البناء.

     البرمجة الاجتماعية تنتج عن مبادلات طقسية تقليدية أو شبه طقسية، المعيار الأساسي لها هو القبول المحلي، وهي ما يعرفه الناس بـــ “السلوك الجيد” أو “الأخلاق الجيدة”. يقوم المربون في كل بقاع العالم بتعليم أطفالهم الأخلاق والسلوكيات الجيدة، ما يعني أنهم يعرفون التحيات المناسبة، وطرق الأكل الصحيحة، وكيفية التبرز والتبول، وطريقة الخطبة والزواج الملائمة، وطقوس التشييع والجنائز، وأيضاً كيفية إجراء محادثات موضوعية مع التقييدات والدعم الملائمين، الذين يشكلان معاً اللباقة أو الديبلوماسية، منا المحلي ومنها العالمي. التجشؤ أثناء الأكل أو السؤال عن امرأة شخص آخر هي أمور ترفضها التقاليد المتوارثة، وبالتأكيد يوجد علاقة عكسية بين هذين التفاعلين بالذات، غالباً في المجتمعات التي يُتقبل فيها التجشؤ أثناء الأكل يكون الحديث عن نساء الناس محرماً، وفي المجتمعات التي تتقبل الحديث عن النساء يحرم فيها التجشؤ. غالباً ما تسبق الطقوسُ الرسميةُ ما يليها من محادثات موضوعية شبه طقسية، ويمكن تمييز الأخيرة بتسميتها “تسالي”.

     مع توطد المعرفة بين الناس، تبدأ البرمجة الفردية بالتسلل تدريجياً، فتبدأ الــ “الأحداث” أو “المجريات” بالوقوع. هذه الأحداث تظهر سطحياً على أنها طارئة أو عرضية، وقد يصفها الأشخاص المعنيين بها بذلك، ولكن بالتدقيق فيها نتبين أنها تتخذ أنماط معينة قابلة للفرز والتصنيف، وأن تتابعها يكون محدوداً بنظم وقواعد غير مُفصح عنها، وبناء على م أثبته هويل، فهذه القواعد تظل مستترة طالما استمرت الصداقات أو العداوات، ولكن ينكشف عنها الستار إذا تم اتخاذ أي خطوة غير قانونية، ما يسمى بالـ “مخالفة!” هذا التتابع من الأحداث – والذي بعكس الـ “تسالي” يكون نتيجة البرمجة الفردية لا الاجتماعية – يمكن أي يطلق عليه اسم “لعبة”. إن الحياة الأسرية والزوجية وكذلك الحياة في المنظمات بمختلف أنواعها قد تعتمد على نفس اللعبة لأعوام متواصلة.

     قولنا إن جملة النشاط الاجتماعي يتكون من ألعاب تُلعب لا يعني بالضرورة أنها في الغالب تكون “ممتعة” أو أن أطرافها ليسوا مشاركين فيها بجدية، فمن ناحية؛ لعب “كرة القدم” أو أي “لعبة” رياضية أخرى قد لا يكون ممتعاً على الإطلاق، وربما يكون اللاعبون في حالة من الشدة والكَدَر، وقد يهجم لاعب على الآخر أو يقوم بإيذائه، وبعض هذه الصور من “اللعب” تكون خطيرة وأحياناً مميتة. ومن الناحية الأخرى؛ فبعض الكُتاب مثل هويزينغا يضم تحت “الألعاب” أشياء خطيرة مثل ولائم آكلي لحوم البشر. إذاً فوصف بعض التصرفات البائسة مثل الانتحار والسكر والإدمان والإجرام وانفصام الشخصية أنها “ألعاب” ليس بغرض الاستهتار أو الفكاهة أو الهمجية. الصفة الأساسية للعب الإنسان أن العواطف تكون زائفة، ولكنها منظمة، وينكشف هذا عندما يتم فرض العقوبات على العرض العاطفي الغير شرعي. قد يكون اللعب شديد الخطورة، حتى لدرجة مميتة، ولكن تظهر عقوبة العقوبات الاجتماعية فقط إذا تم كسر القواعد.

     التسالي والألعاب هما بدائل عن الشعور الحقيقي بالألفة الحقيقية، وبسبب ذلك يمكن اعتبارها تصرفات ابتدائية بدلاً من ارتباطات، لذا فهي توصف بأنها صور محزنة ومحركة للمشاعر من صور اللعب. تبدأ الألفة عندما تصير البرمجة الفردية (غالباً تكون فطرية) أقوى، ويبدأ التخطيط الاجتماعي، والقيود والدوافع الباطنة بالانكشاف، وهي وحدها التي تقوم بإشباع التعطش للمؤثر وللتقدير وللتكوين، ونموذجها المبدئي هو التشبع بالحب.

     إن التعطش للتكوين له نفس القيمة المصيرية كالتعطش للمؤثر. يعبر التعطش للمؤثر والتعطش للتقدير عن الحاجة إلى تجنب الفقر الحسي والعاطفي المؤديان للتدهور البيولوجي، أما التعطش للتكوين يعبر عن الحاجة إلى تجنب الملل. قام كيركِجارد بتوضيح السلبيات والشرور التي قد تكون عاقبة الوقت الغير مـُكوَّن. إذا استمرت حالة الملل لأي فترة من الوقت، فمن هنا يحمل الملل نفس معنى ودلالة الفقر العاطفي وقد يكون له نفس العواقب.

     يستطيع الفرد أن يقوم بتكوين وقته بطريقتين: النشاط والخيال. قد يظل الشخص وحيداً حتى وهو محاط بأشخاص آخرين، واسألوا المدرسين في المدارس عن ذلك. عندما يوجد تجمع اجتماعي من شخصين أو أكثر، هناك عدة خيارات لتكوين الوقت: 1. الطقوس 2. التسالي 3. الألعاب 4. الأُلفة 5. النشاط (مرتبة حسب درجة تعقيدها) والتي قد تقوم بإنشاء مجال لأي من الآخرين. هدف كل شخص في التجمع هو الحصول على أكبر كمية ممكنة من الرضا من خلال تفاعلاته مع باقي الأشخاص، وكلما كان متاحاً للآخرين كلما حصل على رضا أكثر. معظم برمجته لعملياته الاجتماعية يكون عفوياً وتلقائياً. بما أن بعض صور الــ “رضا” المكتسبة من خلال تلك البرمجة مثل تلك المدمرة لذاته يصعب إدراجها تحت معنى الــ “رضا”، يفضل استخدام مصطلح غير مقيد مثل الــ “مكاسب” أو الــ “منافع”.

     منافع الاتصال الاجتماعي تدور حول توازن جسدي ونفسي، ولها علاقة بالعوامل الآتية: 1. تفريج التوتر 2. تجنب المواقف الضارة 3. اكتساب الملاطفات 4. الحفاظ على التوازن. تم التحقق والبحث من كل هذه العوامل ومناقشتها بتفصيل كبير من قِبَل الفيسيولوجيين والسيكولوجيين والمحللين النفسيين. بترجمتها إلى مصطلحات علم النفس الاجتماعي يمكن وصفها بــ: 1. المنافع الابتدائية الداخلية 2. المنافع الابتدائية الخارجية 3. المنافع الثانوية 4. المنافع الوجودية. أول ثلاثة يمثلون “مكاسب مرضية” التي وصفها فرود: الكسب المرضي الابتدائي الداخلي، والكسب المرضي الابتدائي الخارجي، والكسب المرضي الثانوي على التوالي. بَيَّنَت الخبرة أن التحقيق في التفاعلات الاجتماعية من منظور المنافع المكتسبة هو أكثر إفادة وتنويراً من النظر إليها كإجراءات دفاعية. ففي المقام الأول؛ أفضل دفاع هو عدم المشاركة في أي تفاعل من البداية، وفي المقام الثاني؛ فمدلول “الدفاع” يغطي فقط جزءاً من أول نوعين من المنافع، أما الباقي ومعهم النوعين الثالث والرابع فهم خارج نطاق هذا المنظور.

أكثر أنواع الاتصال الاجتماعي إسعاداً ولذةً – سواء كانت ضمن النسيج النشاطي أو لا – هي الألعاب والأُلفة. الألفة الـمُطوَّلة أمر نادر، وحتى في تلك الحالة تكون أساساً أمراً خاصاً، أما الاتصال الاجتماعي ذو التأثير والأهمية الكبرى يأخذ هيئة الألعاب، وتلك هي المادة التي تـخصنا هنا في الأساس. للمزيد من المعلومات حول تكوين الوقت يرجى الرجوع لكتاب الديناميكية الجماعية للمؤلف.