5 الإجراءات والطقوس
الباب الأول؛ الفصل الثالث
الإجراءات والطقوس
عادةً تتم التفاعلات في سلاسل، هذه السلاسل ليست عشوائية بل تكون مبرمجة، وقد تتم البرمجة من خلال ثلاثة مصادر: “الراشد” أو “المربي” أو “الطفل”، أو بشكل أعم: من المجتمع أو الماديات أو الطباع. بما أن الحاجة إلى التأقلم تتطلب أن يكون “الطفل” في حماية “المربي” أو “الراشد” حتى يتم تجربة كل موقف اجتماعي، فأنسب وقت لتعمل برمجة “الطفل” هو في مواقف الخصوصية والأُلفة، حيث تكون التجربة الأولية قد تمت مسبقاً.
أبسط صورة للنشاط الاجتماعي هي الإجراءات والطقوس، البعض منها عالمي والآخر محلي، ولكن يجب أن يتم تَعَلُّمهما معاً. الإجراءات هي سلسلة من التفاعلات التكميلية “الراشدية” تسعى إلى التلاعب بالواقع، يتم تعريف الواقع على أن له جانبان: جانب ثابت (ستاتيكي) وآخر متحرك (ديناميكي)، أما الواقع الثابت فيتضمن كل الترتيبات المادية في الكون. الرياضيات، على سبيل المثال؛ تتكون من حقائق واقعية ثابتة، أما الواقع المتحرك يمكن تعريفه باحتمالات وأرجحيات التفاعل بين نظم الطاقة المختلفة في الكون. الكيمياء، على سبيل المثال؛ تتكون من حقائق واقعية متحركة. تعتمد الإجراءات على معالجة البيانات وتوقع الاحتمالات حول مادية الواقع، والوصول لغاية تطورهما في التقنيات الاحترافية. قيادة الطائرة واستئصال الزائدة كلاهما من الإجراءات، وعلم النفس أيضاً من الإجراءات طالما ظل تحت إدارة “الراشد” الخاصة بالـمُعالج، ولا يكون إجراءً إذا كان تحت إدارة “الطفل” أو “المربي”. برمجة أي إجراء تعتمد على مادته، على أساس من التوقعات والتقديرات التي تقوم بها “الراشد” الخاصة بالـمُنَفِّذ.
هناك متغيران اثنان يستخدمان في تقييم الإجراءات. يعتبر الإجراء ذو كفاءة عالية إذا قام الـمُنفذ بأفضل استفادة ممكنة من المعلومات والخبرات المتاحة لديه، بغض النظر أي عجز علمي قد يوجد لديه. إذا تدخلت “الـمربي” أو “الطفل” في عملية معالجة المعلومات التي تقوم بها “الراشد” يصبح الإجراء “ملوثاً” وتقل كفاءته. أما فعالية الإجراء فيُحكم عليها بما ينتج عنه من نتائج فعلية. الكفاءة معيار سيكولوجي أما الفعالية فمعيار مادي. فمثلاً؛ طبيب مساعد محلي في جزيرة استوائية صار بارعاً جداً في إزالة مياه العين البيضاء (الكاتاركت)، فهو استخدم المتاح لديه من علم بدرجة عالية من الكفاءة، ولكن بما أن علمه يقل عن علم الطبيب الأوروبي، فكانت فعالية عمله أقل. أفرط الطبيب الأوروبي في الكحول حتى قلت كفاءة عمله، ولكن في البداية لم تنعدم فعاليته، أما عندما صارت يديه مرتعشتان على مر السنين، بدأ مساعده بالتفوق عليه ليس فقط في الكفاءة بل في الفعالية كذلك. يمكن أن نرى من هذا المثال كيف أنه من الأفضل تقييم هذين المتغيرين – الكفاءة والفعالية – من قِبَل متخصص في الإجراءات المتضمنة: الكفاءة من خلال المعرفة والمرافقة الشخصية للـمُنفذ، والفعالية من خلال تفحص النتائج الحقيقية.
من المنظور المعاصر؛ فالــ “طقس” هو سلسلة نمطية من التفاعلات التكميلية البسيطة تتم برمجتها من قِبَل قوى اجتماعية خارجية. الطقس الغير رسمي – مثل طلب الإذن بالمغادرة – قد يكون عرضة لتنوع محلي كبير في تفاصيله، أما الطقوس الرسمية – مثل التلاوات الدينية الجماعية – فهي تتيح خيارات أقل بكثير. صورة الطقس تحددها العادات والتقاليد “التربوية”، ولكن التأثير “التربوي” الحديث قد يكون له مفعول مشابه ولكن أقل استقراراً في الحالات التافهة أو البسيطة. بعض الطقوس الرسمية التي تنال اهتماما تاريخيا أو أنثروبولوجياً لها مرحلتان؛ 1. مرحلة تتم فيها التفاعلات تحت قيود “تربوية” شديدة، و 2. مرحلة الرخصة “التربوية”، بحيث تُعطى “الطفل” الحرية التفاعلية ويؤدي ذلك للعربدة والفوضى.
ظهرت الكثير من الطقوس الرسمية في البداية كإجراءات “ملوثة”، ولكنها كانت ذات كفاءة عالية، ولكن مع مرور الوقت وتغير الأحوال فقدت كل صلاحيتها الإجرائية مع احتفاظها بفوائدها كأعمال عقائدية أو إيمانية. من الناحية التفاعلية فهي تمثل طاعات يرجى بها التحرر من الذنوب أو نيل الأجور تحت متطلبات “تربوية” تقليدية، وهي تمثل طريقة آمنة ومطَمْئِنة (صادَّة للشرور) وأحياناً ممتعة لتكوين الوقت، بالنسبة لبعض الناس.
النوع الذي ينال اهتمامنا الأكبر كمقدمة لتحليل الألعاب هو الغير الرسمي من الطقوس، ومن أفضل الأمثلة التعليمية طقوس التحية بالطريقة الأمريكية:
1أ: “أهلاً!” (مرحباً، صباح الخير.)
1ب: “أهلاً!” (مرحباً، صباح الخير.)
2أ: “الجو دافئ اليوم أليس كذلك؟” (كيف حالك؟)
2ب: “بالطبع، ولكن يبدو أنها ستمطر” (بخير، وأنت؟)
3أ: “على أي حال، اعتنِ بنفسك، أراك لاحقاً” (حسناً)
3ب: “أراك لاحقاً”
4أ: “مع السلامة”
4ب: “مع السلامة”
من الواضح أن النية من هذه المحاثة لم تكن إيصال أي معلومات، فبالطبع لو كانت هناك أي معلومات فمن الحكمة كتمانها، فلربما أخذ الأستاذ (أ) خمسة عشر دقيقة ليخبر الأستاذ (ب) عن حاله، كما أن الأخير ليست لديه النية أن يخصص كل ذلك الوقت ليستمع إلى حديثه. الوصف المناسب لهذه السلسلة من التفاعلات هو تسميتها بــ “طقس ثُـمَانيّ الملاطفات”. إذا كان (أ) و (ب) على عجلة من أمرهما فقد يتصلان بمجرد محادثة بسيطة ثُنائية الملاطفات: “أهلاً” – “أهلاً”. إذا كانا مَلِكَيْن شرقيين قديما الطراز فلربما اتخذا محادثة تتعدى المائتا ملاطفة قبل الشروع في الكلام الجاد. في ذات الوقت وفي رطانة التحليل التفاعلي؛ فإن (أ) و (ب) قد قاما بتحسين صحة بعضهما بشكل طفيف، في الوقت الحالي على الأقل؛ “فنخاعهما الشوكي لن يذبل”، وبالتالي فكلا الطرفين ممتنان لبعضهما.
هذا الطقس يعتمد على حسابات حدسية قام بها كلا الطرفين. في هذه المرحلة من معرفتهما لبعض قام الاثنان بتقدير أن أحدهما يدين للآخر بأربعة ملاطفات في كل مرة يتقابلان، وليس أكثر من مرة واحدة في اليوم. إذا قابلا بعضهما مرة أخرى بالصدفة – بعدها بنصف ساعة مثلاً – فليس لدى أحدهما أي غرض للتفاعل مع الآخر، فسيقومان بالمرور دون أن يلتفت أحدهما للآخر، أو بمجرد إيماءة بسيطة توحي بالاعتبار، أو – على الأرجح – بمبادلة التحية الروتينية: “أهلاً” – “أهلاً”. هذه الحسابات تستمر ليس فقط لفترات وجيزة بل قد تستمر شهوراً عدة. الآن دعونا نلقي النظر على موقف الأستاذ (جـ) والأستاذ (د)، اللذان يمران ببعضهما حوالي مرة كل يوم، ويبادل أحدهما الآخر بملاطفة واحدة: “أهلاً” – “أهلاً” ثم يفترقان. ثم يسافر الأستاذ (جـ) في عطلة لمدة شهر، وفي اليوم الذي يلي عودته يقابل الأستاذ (د) كعادته. في هذا الموقف إذا قام الأستاذ (د) بتحيته بــ “أهلاً” وفقط، فسوف يشعر (جـ) بالاستياء منه، “سوف يذبل نخاعه الشوكي قليلاً”، فبحساباته فكلاهما يدين للآخر بثلاثين ملاطفة، ويمكن تكثيفها في بضعة تفاعلات بشرط أن تكون تلك التفاعلات تأكيدية بشكل كافِ لأهمية ذلك الشأن. فمثلاً، من ناحية (د) يمكن أن يقول الآتي (مع اعتبار أن كل وحدة للـ “الاهتمام” أو “القوة” تساوي ملاطفة واحدة):
1د: “أهلاً!” (وحدة واحدة)
2د: “لم أرك في الجوار مؤخراً!” (وحدتان)
3د: “فعلاً؟ إلى أين ذهبت؟” (خمس وحدات)
4د: “يبدوا هذا مثيراً! هل استمتعت بوقتك؟” (سبع وحدات)
5د: “أنت تبدوا على ما يرام.” (أربع وحدات) “هل ذهبت بصحبة عائلتك؟” (أربع وحدات)
6د: “على أي حال، أنا سعيد بعودتك.” (أربع وحدات)
7د: “أراك لاحقاً!” (وحدة واحدة)
بجمعها كلها فأستاذ (د) قد أوصل 28 وحدة. كلا الطرفين – (جـ) و (د) – يعرفان أنه سيتم تعويض الوحدتين الناقصتين في اليوم التالي، إذاً في واقع الأمر يكون الحساب بين الاثنين صافٍ الآن. بعدها بيومين سوف يرجعان مرة أخرى لحالة مبادلة الملاطفات الثنائية: “أهلاً” – “أهلاً” ولكن الآن هما “يعرفان بعضهما على نحو أكبر”، مثلاً: يعرف كلاهما أن الآخر شخص موثوق وأمين، وقد يكون ذلك الأمر ذو فائدة إذا حدث والتقيا ببعضهما “اجتماعياً”.
يجب أيضاً أن نلقي الضوء على السيناريو المعاكس: الأستاذ (ه) والأستاذ (و) يتبادلان الملاطفة الثنائية “أهلاً” – “أهلاً” يومياً، ولكن في يوم ما وبدلاً من مجرد الـمُضِيّ في السير، يقف الأستاذ (ه) فجأة ويسأل “كيف حالك؟”. يدور الحوار كالتالي:
1ه: “أهلاً!”
1و: “أهلاً!”
2ه: “كيف حالك؟”
2و: (في حيرة) “بخير، وأنت؟”
3ه: “كل شيء على ما يرام. الجو دافئ اليوم أليس كذلك؟”
3و: “بلى” (بحذر) “ولكن يبدو أنها ستمطر”
4ه: “أنا سعيد برؤيتك مجدداً”
4و: “وأنا كذلك. عذراً يجب أن أسرع إلى المكتبة قبل أن تغلق. مع السلامة”
5ه: “أراك لاحقاً”
بينما يبتعد الأستاذ (و) مسرعاً يفكر في نفسه: “ما الذي انتاب هذا الرجل فجأة؟ هل يريد أن يبيع لي شيئاً أم ماذا؟”. يمكن ترجمة ذلك باللغة التفاعلية ليكون: “كل ما وجب عليه هو ملاطفة واحدة، فلماذا يعطيني خمسة؟”
في سبيل إيضاح هذا النوع من الطقوس التفاعلية – شبه التجارية – البسيطة بشكل أبسط، سنسلط الضوء على الأستاذ (ز) الذي يقوم بتحية الأستاذ (حـ) قائلاً “أهلاً!” فيمر (حـ) في طريقه دون أن يرد على (ز)، هنا يكون تفكير الأخير: “ما خطب هذا الرجل؟” ويعني: “لقد أعطيته ملاطفة ولكنه لم يعطيني واحدة في المقابل!” وإذا استمر الأستاذ (حـ) بفعل ذلك بل ومع أشخاص آخرين غير (ز)، فسوف يُقال عنه الأقاويل في مجتمعه.
أحياناً في بعض الحالات البينية يصعب التفرقة بين الإجراءات والطقوس، ولكن من وجهة نظر الشخص العام فهو يعتبر أي إجراء احترافي طقساً، بينما في الحقيقة أي تفاعل قد يعتمد على تجربة وخبرة سليمة وحيوية، ولكن لا يقدر الشخص العام ذلك فهو لا يمتلك الخلفية الكافية ليفعل. أما على العكس؛ بالنسبة للمحترفين والمتخصصين فهم يميلون لتبرير العناصر الطقسية التي لا تزال ملازمة لإجراءاتهم، ويقومون بتنحية العوام الشكاكين على أساس أنهم ليس لديهم ما يـُمَكِنهم من فهم هذه الأمور، ومن ضمن الطرق التي يقوم بها الاحترافي الـمُحَصَّن – المتمسك بالطرق والعادات القديمة – لمقاومة استحداث أي إجراءات جديدة – بالرغم من صحتها – هي بأن يسخر منها ويصفها بــ “الطقوس”، ومن ضحايا ذلك “إيجنز سيملفيس” وغيره من المستحدثين المبتكرين.
إن الصفة الأساسية والمشتركة للإجراءات والطقوس كليهما هي النمطية والابتذال، فعندما يتم التفاعل الأول فما يليه من سلسلة التفاعلات يكون سهل التوقع، وتتبع مساراً حتمياً لتنتهي باستنتاج مُـقَدَّر، إلا إذا حدثت أي ظروف خاصة. الفرق بينهما يكمن في أصل حتمية كل منهما، فالإجراءات تبرمجها “الراشد” والطقوس تبرمجها “الـمربي”.
هناك أشخاص لا يبرعون في الطقوس ولا يرتاحون لها وهؤلاء يلجئون إلى الهروب منها باستبدالها بالإجراءات، ويمكن أن تجد هؤلاء – مثلاً – وسط من يـُحبون مساعدة المضيفة في تحضير أو تقديم الطعام والشراب في الحفلات.