الخميس, نوفمبر 21, 2024
التحليل التفاعلي

6 التسالي

الباب الأول ؛ الفصل الرابع
التسالي

 تحدث التسالي في إطارات اجتماعية ودنيوية مؤقتة على درجات متنوعة من التعقيد، بالتالي فهي تختلف في مدى تعقيدها. على أي حال، إذا قمنا باستخدام التفاعل كوحدة بنائية للاتصال الاجتماعي؛ فباستطاعتنا أن نشتق من المواقف المناسبة كينونة يمكن أن نسميها تسلية بسيطة، ويمكن تعريف التسلية بأنها سلسلة من التفاعلات التكميلية البسيطة الشبه طقسية، تدور حول مجال مادي واحد، غرضه الأساسي هو تكوين الوقت في فترة فاصلة بينية، وبشكل عام تشير الإجراءات أو الطقوس إلى نقطة بداية ونهاية تلك الفترة. تتم برمجة التفاعلات بشكل ملائم بحيث يحصل كل شخص على أقصى استفادة أو مكسب ممكنَـين أثناء تلك الفترة، وكلما حسنت ملائمة تلك التفاعلات للموقف كلما زادت مكاسب الـمُنَـفِّذ.
تٌلعب التسالي بشكل عام – مثلاً – في الحفلات (“التجمعات الاجتماعية”) أو خلال فترة الانتظار التي تسبق بدء اجتماع رسمي، والتي يكون لها نفس التكوين والديناميكية كالحفلات. قد تأخذ التسالي صورة ما نسميه بــ “الدردشة” أو قد تصبح أكثر جدية (جدالاً). تخيل حفلة كبيرة، هذه الحفلة تكون كأنها معرض لعرض شتى الأنواع من التسالي؛ ففي ركن من أركان الحجرة يتسلى بعض الأشخاص – مثلاُ – بلعب “PTA ” (اختصار لــ Parent-Teacher Association ويقصد بها الحديث عن الأطفال والمدارس)، وركن ثانٍ عبارة عن منتدى لعلم النفس، وثالث عبارة عن مسرح لــ “هل قمت بــكذا؟” أو “ماذا حدث لــكيت؟”، ورابع مخصص للحديث عن السيارات والمحركات، أما البوفيه فمحجوز للنساء الذين يريدون أن يلعبوا “المطبخ” أو “الموضة”. كل هذه المجريات الجارية في هذا التجمع تكاد تكون متطابقة مع غيرها مما يجري في اثنتي عشرة حفلة غيرها تحدث في الوقت ذاته في الحي ذاته، باستثناء بعض الاختلافات في المسميات هنا أو هناك، أما في مجتمع آخر ذو طابع آخر، قد تجري اثنتي عشرة حفلة أخرى بمجموعة مختلفة من التسالي.

يمكن تصنيف التسالي بعدة طرق مختلفة، ويعتمد ذلك على مـُحَدِّدات اجتماعية ظاهرية (الجنس والسن والحالة الاجتماعية والثقافة العِرقية أو الاقتصادية). مثلاً؛ الحديث حول السيارات أو الرياضة، كلاهما يعتبر “مواضيع رجالية”، أما الحديث عن الطبخ والتسوق والموضة فتعتبر “أحاديث نسائية” أو “أحاديث حواء”. الحديث عن الغرام والحب تعتبر “أحاديث المراهقين” أما من تقدم به العمر فيميل للحديث عن “الميزانية”. هناك أنواع كثيرة أخرى من نفس الفصيلة – وكلها مجرد أنواع مختلفة من “المحادثات القصيرة” – ومنها:

  • “كيف يمكنني أن… (أقوم بكذا؟)” وهي موضوع حشوي مناسب للرحلات الجوية القصيرة.
  • “كم… (سعر كذا؟)” المفضلة في حانات الطبقة الوسطى.
  • “هل سبق… (وذهبت إلى ذلك المكان؟)” ويلعبها أصحاب الخبرة والمهارة مثل التجار.
  • “هل تعلم… (كذا وكذا؟)” للمنعزلين وأصحاب الوحدة.
  • “كيف حال… (فلان الآن؟)” التي يلعبها غالباً الناجحين أو الفاشلين في مجال الاقتصاد، وغيرها.

     بالنسبة لتصنيف التسالي من الناحية التفاعلية التكوينية فهو أكثر اعتماداً على الشخصية، وبناءً على ذلك يمكن لعب “PTA ” بثلاثة أساليب؛ أولها أسلوب “طفل – طفل” ويأخذ صورة: “كيف تتصرف مع المربي العنيد؟”، والثاني أسلوب “راشد – راشد” (PTA صحيحة) وهو أكثر شيوعا لدى الأمهات صاحبات المعرفة الواسعة، أما لدى كبار السن فيميلون للأسلوب الجازم: “مربي – مربي” ويتمثل في الحديث عن “انحراف الأطفال والشباب”. بعض المتزوجون يلعبون “قل لهم يا عزيزي…” حيث تكون الزوجة “مربي” ويلعب الزوج دور الطفل الناشئ. “أنظري ماما! بدون أن أمسك!” (مَثَل شعبي أمريكي يعبر عن القيام بشيء فيه مخاطرة ومجازفة بدافع التفاخر، مثل أن يقود الطفل دراجة بدون أن يمسك المقود ليبهر أمه، وهذا هو أصل المثل) هي أيضاً تسلية من نوع “طفل – مربي” مناسبة لجميع الأعمار، وأحياناً تتحول بشكل محرج إلى تسلية “الـخَجُول”
يعتبر التصنيف السيكولوجي للتسالي منهجاً أكثر قوة وإقناعاً، فمثلاً يمكن أن تُلعب تسالي “PTA ” أو “علم النفس” بطريقة من اثنتين: الطريقة الإسقاطية (بإسقاط واقع الشخص الداخلي على الواقع الخارجي) أو الاستبطانية (باستبطان الواقع الخارجي إلى الواقع الشخصي الداخلي). يوضح الشكل 6(أ) تحليل تسلية “PTA ” بالطريقة الإسقاطية، معتمداً على النموذج الآتي (“مربي – مربي”):

  • أ: “إن التفكك الأسري هو بلا شك سبب انتشار الانحراف بين الشباب!”
  • ب: “ليس هذا وحسب، حتى في الأسر السليمة الآن لا يقوم أحد بتعليم الأطفال الأخلاق والسلوكيات الحميدة على النحو اللازم.”

أما النوع الاستنباطي من تسلية “PTA” فيتمثل في الآتي (“راشد – راشد”):

  • جـ: “إنني فقط لا أملك المقومات الكافية لأكون أُماً.”
  • د: “مهما حاولتِ، فالأطفال لن يكبروا أبداً بالطريقة التي تريدينها، لذا يجب أن تظلي تفكرين؛ هل فعلاً ما تقومين به هو الصواب، وفي الأخطاء التي ترتكبينها.”

النوع الإسقاطي من تسلية “علم النفس” يأخذ هيئة “راشد – راشد”:

  • ه: “أعتقد أن بعض التثبيط الشفهي اللاواعي هو ما يدفعه للقيام بتلك التصرفات.”
  • و: “يبدو أنك بارع في التعلية من ميولك العدوانية”

يوضح الشكل 6(ب) تسلية “علم النفس” بالنوع الاستبطاني، وهي أيضاً تسلية “راشد – راشد” :

  • ز: “إن هذه اللوحة في نظري ترمز إلى التلطيخ”
  • و: “أما بالنسبة لي فالرسم هو محاولة إرضاء والدي”

     بالإضافة إلى تكوين الوقت وإمداد كل الأطراف المشاركة بكمية معقولة من الملاطفات، تؤدي التسالي غرضاً آخر وهو وظيفتها كعمليات اختيار اجتماعي، ففي أثناء تسلية ما، تقوم “الطفل” بداخل كل لاعب بتقييم القدرات الكامنة لغيره من اللاعبين بحذر، وفي نهاية الحفلة سوف يكون لدى كل شخص قائمة مختارة من اللاعبين الذين يريد أن يعرف عنهم أكثر، بعد قيامه باستبعاد الآخرين بغض النظر عن مدى مهارتهم ومتعة مشاركتهم في التسلية. هؤلاء الذين يقوم باختيارهم هم أكثر من يُرشحهم للتفاعل معهم في علاقات أكثر تعقيداً ألا وهي الألعاب. هذه المنظومة التصنيفية في الحقيقة، بالرغم من كونها منطقية ومُسَوّغة بشكل جيد، إلا إنها إلى حد كبير حدسية ولا واعية.

في بعض الحالات الخاصة تقوم “الراشد” بحل محل “الطفل” في عملية الاختيار، يظهر هذا بوضوح عند التجار الذين يتعلمون كيفية لعب بعض التسالي الاجتماعية بحذر، فبينما هو يلعب تقوم “الراشد” لديه بالاستماع للمرشحين المحتملين وتختارهم من بين اللاعبين كأشخاص يريد أن يعرف أكثر عنهم، بغض النظر عن مدى مهارتهم في لعب الألعاب أو قدرتهم على المخالطة الاجتماعية، فلا صلة لهما بعملية الاختيار، التي تعتمد في معظم الأحيان على عوامل طرفية، كالاستعداد التجاري في تلك الحالة مثلاً.
التسالي – على أي حال – لها سمة خاصة وهي الانحصار أو القصر، فلا يمكن المزج مثلاً بين “الأحاديث الرجالية” و “أحاديث حواء”. كذلك إذا كان بعض الأشخاص منهمكين في لعب “هل سبق وذهبت إلى (هناك؟)” فسوف ينزعجون إذا جاء متطفل يريد أن يلعب “كم ثمن (الأفوكادو؟)” أو “هل تعلم؟”. وأشخاصاً يلعبون “PTA ” إسقاطية سوف ينزعجون بتدخل “PTA ” استبطانية، على الرغم من أن الانزعاج غالباً يكون أخف في حالة العكس (تدخل استبطاني في تسلية إسقاطية).
تُكَون التسالي أساساً لعملية اختيار المعارف الذين قد تتقدم معهم العلاقة إلى مرحلة الصداقة. مثلاً؛ مجموعة من النساء يجتمعن معاً في بيت إحداهن كل صباح لشرب القهوة ولعب “الزوج المنحرف” لديهم قابلية كبيرة للترحيب بجارة جديدة تريد أن تلعب “البيض العيون”. ولكن بينما هم يتحدثون عن سوء أخلاق أزواجهم يكون أمراً مزعجاً استقبال مستجدة تصف زوجها بالرائع أو المثالي، ولن تدوم صحبتهم لها طويلاً. إذاً ففي حفلة إذا أراد شخص أن يترك ركناً ليذهب إلى آخر فلابد أن يشارك في التسلية الجارية في الركن الجديد أو أن ينجح في تحويل مادة الحديث إلى موضوع جديد، وهنا يتجلى دور المضيفة الماهرة، التي تسيطر على الموقف في الحال وتنبه المشاركين للبرنامج: “نحن كنا نلعب “PTA ” إسقاطية الآن، ما رأيك؟” أو “هيا يا آنسات… مر وقت طويل ومازلتم تلعبون “الموضة” بينما أنا متأكدة أن هذا الأستاذ الكاتب/السياسي/الجراح هنا يريد أن يلعب “أنظري ماما! بدون أن أمسك!”، أليس كذلك يا أستاذ؟”

من الفوائد الأخرى التي نكتسبها من التسالي؛ تأكيد الدور وترسيخ الموقف. “الدور” هو شيء مثل ما يطلق عليه چانج “Persona ” – تعني شخصية الإنسان كما يراها الناس – باستثناء أنها أقل انتهازية وأعمق توغلاً في مخيلة الشخص. إذاً ففي “PTA ” إسقاطية قد يلعب شخص ما دور “المربي الصارم”، ويلعب ثانٍ دور “المربي العادل”، وثالث دور “المربي المتسامح” ورابع دور “المربي المتعاون”، تكون حالة الذات النشطة لدى الأربعة هي “المربي” ولكن كلاً منهم يعبر عن نفسه بشكل مختلف عن الآخرين، ويتم إثبات دور كل واحد إذا غلب وانتصر، بمعنى أنه لم يتلقى أي معارضة، أو يزداد قوة كلما تلقى من معارضة، أو معترف به من قِبَل أنواع معينة من الناس مع الملاطفة.

إثبات دور الشخص يقوم بترسيخ “موقفه”، ويسمى ذلك بــ “الفائدة الوجودية” من التسلية. “الموقف” هو عبارة توكيدية بسيطة تنعكس عليها كل تفاعلات الشخص، وعلى المدى الطويل يقوم بتحديد مصيره و – غالباً – مصير أولاده وأحفاده كذلك. موقف الشخص يكون مطلقاً وحتمياً بشكل أو بآخر. بعض المواقف النموذجية التي قد تٌلعب عليها “PTA ” إسقاطية منها “كل الأطفال سيئون!”، أو “كل الأطفال الأخرون سيئون!”، أو “كل الأطفال بائسون!”، أو “كل الأطفال مضطهدون!”. هذه المواقف قد تُنشئ أدوار “المربي الصارم” أو “العادل” أو “المتسامح” أو “المتعاون” تباعاً. في الحقيقة، إن ما يُبَين موقف الإنسان أساساً هو سلوكه العقلي الذي ينتج عنه، وبذلك السلوك يلتزم الإنسان بالتفاعلات التي تمثل دوره.

من المدهش أنه يتم اتخاذ المواقف وتأصلها في الإنسان في مرحلة مبكرة جداً من الحياة، تبدأ من السنة الثانية أو حتى الأولى إلى السنة السابعة من العمر، وفي كل الأحوال يكون ذلك قبل أن يكتسب الإنسان أي مهارات أو خبرات كافية لاتخاذ مثل هذا الالتزام الجاد. ليس أمراً صعباً أن تستنتج من موقف شخصٍ ما طبيعة الطفولة التي خاضها. يقوم الإنسان في بقية حياته بترسيخ موقفه والتعامل مع المشاكل التي تهدده؛ وذلك بتجنبها أو تحاشي بعض العناصر أو التلاعب بها بشكل استفزازي لتتحول من مُهددات إلى مبررات، وبسبب أنها تؤدي مثل تلك الأغراض المبتذلة توصف التسالي بالابتذال، ولكن ما تقدمه من مكاسب وفوائد يوضح سبب إقبال الناس على لعبها بلهفة، ويوضح كيف يمكن أن تكون ممتعة وسارة جداً إذا لُعِبَت مع أشخاص ذوي مواقف بناءة أو خيرية يحافظون عليها.

إن التفرقة بين التسلية والنشاط ليست دائماً أمراً سهلاً، وكثيراً ما يحدث مزيج بين الاثنين. الكثير من التسالي الشائعة مثل “السيارات” تتكون مما يسميه السيكولوجيون “أسئلة اختيار من متعدد/أكمل الجملة”.

  • أ: “أنا أفضل الـفورد/الشيفروليه/البليموث عن الـفورد/الشيفروليه/البليموث بسبب…”
  • ب: “أما أنا فأفضل أن أمتلك الـفورد/الشيفروليه/البليموث عن الـفورد/الشيفروليه/البليموث بسبب…”

     أمر واضح أنه قد يتم إيصال بعض المعلومات المفيدة في مثل هذه المبتذلات.
يمكن أن نذكر بضعة تسالي شائعة أخرى، مثل “أنا أيضاً!” التي عادة تكون شكلاً آخر لــ “أليس ذلك فظيعاً؟”. “لماذا لا يفعلون (شيئاً حيال ذلك الأمر؟)” وهي مفضلة لدى ربات البيوت الذين لا يرغبون في التحرر من قيود البيت. “إذاً فلنفعل!” وهي تسلية “طفل – طفل”. “فلنبحث (عن شيء نفعله!)” ويلعبها الشباب المنحرفون أو الكبار الخبيثون.