الخميس, نوفمبر 21, 2024
التحليل التفاعلي

2 مقدمة د. جيمس ر. ألِن “وكأنني فجأةً فتحتُ باباً”

 في صباح يوم شتوي بارد منذ أربعين عاماً، أعطاني الطبيب المُشرف علَيّ نسخة من كتاب “ألعاب يلعبُها الناس”، وأخبرني أنه بالرغم من غموض اسم الكتاب؛ فقد “أعطى مؤلفه عجلة القيادة للطب النفسي”.  في ذلك الوقت كنتُ في السنة الأولى كطبيب نفساني مقيم في جامعة مك جيل في كويبِك، وكان المُشرِف عليّ، د. هانز لِيـمَن، من أشهر أعلام الطب النفسي في أمريكا الشمالية. يجدر بالذكر أنه قام منذ بضع سنوات بتقديم مادة الـ ثورازيـن (لارجاكتيـل) لعلاج حالات انفصام الشخصية في أمريكا الشمالية، وكانت تلك الخطوة بمثابة ثورة في علاج الحالات النفسية الحرجة.

      لم أكن أنا ولا د. لِيـمَن على دراية بأن إرِيك بيرن قد نشأ في مونتريال وأنه قد تخرج من جامعة مك جيل، ثم بعد خمس سنوات وأثناء حضورنا في مجموعات بيرن في سان فرانسيسكو، علمت بأننا كنا نشارك خلفيات واهتمامات متشابهة؛ حيث كنَّا نحن الاثنين نحصل على أعلى الدرجات في مادة الأدب الكلاسيكي، وكان لدينا الاهتمام ذاته حول كيفية تأثير ماضي الناس على حياتهم؛ كان بعض الناس يجعلون ماضيهم ممثلاً لشخصياتهم ومُحدداً من يكونون، والبعض الآخر يجعلون من ماضيهم أساساً يتخذون عليه قراراتهم المستقبلية. ولكن ما أعجبني حقاً في شخصية بيرن كان أربع خصال فيه: ذكاؤه الشديد، وتركيزه الحاد، ومزاحه الملتوي المميز، وأخيراً قدرته على رؤية ما وراء التفاعلات الفوضاوية البينة بين البشر، والأسباب والأنماط المؤدية إليها، وسوف يجد قارئ هذا الكتاب تلك الصفات واضحة في كلماته.

     إحدى المميزات الفريدة لمنهاج تحليل الألعاب على طريقة بيرن هي أنه يقوم بالربط بين الخبرات الداخلية للبشر (الجانب النفسي) ومعاملاتهم الخارجية بين بعضهم البعض (الجانب الاجتماعي)، متزامنين معاً وباستمرارية، وقد دفعتنا الأسماء المدهشة، والمضحكة غالباً، التي كان يطلقها على الألعاب التي وصفها إلى إعادة النظر من جديد في الأمور لنراها من منظور مختلف قليلاً.

       قد يكون بعض قراء هذا الكتاب الأصليين أعطوه إلى قُرنائهم أو أصدقائهم بكلمات توحي بالانتصار عليهم و الانتقام منهم؛ مثل “يا ولد! أليس هذا يكشف ألاعيبك!”, ولكن لم تكن هذه نية بيرن من نشر الكتاب. لا أُنكر أنه قد دعانا فيه فعلاً لأن نضحك على تصرفاتنا السخيفة والبلهاء، ولكن لم يكن اسلوبه مؤذياً أو خبيثاً، وكأنّهَ باباً قد ظهر أمامنا فجأة، يدعونا لأن ندفعه لنفتحه، ولكن عندما يعالج المرضى فهو يتخذ باباً آخر، فهو يسأل المريض بوضوح وصراحة، مثل “ما الذي تريد تغييره؟ ومتى يمكن أن نجزم أنك قد غيرته فعلاً؟” تلك الأسئلة التى يسعى بها إلى رسم خطة لتحقيق الهدف المراد، ومن ثَم تؤدي لتمييز معايير معينة يحكم بها على مدى نجاح العلاج.

     عندما أراد أن ينشر كتابه “ألعاب يلعبها الناس” في عام 1964، قام بيرن وأصدقاؤه بجمع المال ليدفعوه لدار النشر، وقد نجح هذا الكتاب نجاحاَ كبيرا وحقق أفضل المبيعات في الأسواق، الأمر الذي مثَّل مفاجأة كبيرة للديار التي رفضت نشره من قبل، ومن هنا أصبحت مصطلحات مثل “ملاطفة”، “لعبة”، “ابتزاز”، “معاملات”، “طفل”، “مُربي”، “راشد” التي تناولها الكتاب جزءاً من الثقافة العامة في الستينات والسبعينات، ولكن أحياناً كانت تحمل تلك المصطلحات المتداولة بين الناس معانٍ غير تلك التي كان يقصدها في كتابه.. بمعنى أنهم يقصدون إنها حيل وليست ألعاب كما كان يقصد بيرن.

     لسوء الحظ، جعل نجاح هذا الكتاب من علم التحليل التفاعلي سيركاً يعمه الهَرْج، يتكلم فيه كل من هب ودب، الأمر الذي أنسى الناس حقيقة أن ذلك علمٌ من العلوم المتقدمة، وأسلوب إدراكي جاد للوصول للعلاج النفسي، كما أنه يتضمن أكثر الطرق فعالية في التعامل مع النفس ومع الآخرين، بالإضافة إلى قضايا الديناميكية النفسية.

     وبعد أن سكنت الضجة، وعاد علم التحليل التفاعلي إلى عهده السابق، تمت إضافة الكثير من المفاهيم الجديدة إليه وتم تعديل الكثير من المفاهيم القديمة.

     تُوفيَ بيرن في عام 1970، ولكن الخلاف حول إعادة تربية المرضى المنتكسين قد ترك علم التحليل التفاعلي مضمحلاً وقلَّ من يمارسه، على الأقل في الولايات المتحدة، إلَّا أن ظلت جذوره متأصلة وقوية.

علم التحليل التفاعلي اليوم
في الوقت الحالي، يوجد أكثر من 10000 محلل تفاعلي حول العالم، كما توجد مجموعات محلية رسمية في العديد من الدول، ومنظمة عالمية واحدة، وخمسة اتحادات متعددة الجنسيات: الاتحاد الدولي للتحليل التفاعلي ITAA ، والاتحاد الامريكي للتحليل التفاعلي ATAA ، واتحاد غرب المحيط الهادي للتحليل التفاعلي WPATA ، والاتحاد الأمريكي اللاتيني للتحليل التفاعلي ALAT ، والاتحاد الاوروبي للتحليل التفاعلي EATA ، يضم الأخير حوالي 6000 عضو.

     تضم تلك المنظمات المبتدئين والخبراء كليهما، ويتم اختبار جميع المتقدمين إليها من خلال عدة امتحانات لقياس مدى الكفاءة في مجالات الطب النفسي والإرشاد الطبي والتعليم والتطوير التنظيمي، وذلك لضمان مستوى الجودة في المنظمة، ونتيجة لذلك تقوم باستقبال الكثير من الأعضاء الجدد باستمرار، وفي بعض الدول كالمملكة المتحدة وأستراليا صار ممكناً أن تحصل على درجة الماجستير في العلوم من خلال دراسة علم التحليل التفاعلي.

     في عصره، قام بيرن بتقديم فكره بأسلوب علمي متماشٍ مع ذلك العصر، في صورة منهج تعميمي عملي ورسومات توضيحية مفيدة، معتمداً على ملاحظاته الثاقبة وحدسه الدقيق، ولكن في عصرنا الحالي صار بإمكاننا تفسير هذا المنهج وفهمه على أسس علمية معاصرة؛ ومن أمثلة ذلك:

الملاطفة Stroking 
     عرَّف بيرن الملاطفة بأنها تقدير واعتبار يقدمه إنسان لآخر، وهو أمر ضروري للصحة البدنية والنفسية. اليوم يتم البحث بكثرة في مجالات معينة في الصحة العقلية، منها الحرمان من الأمومة، والارتباط بين الرضيع والأم، ودور الملاطفة الحسية في تحسين الحالة البدنية والنفسية، فعلى سبيل المثال، تم إثبات أن الأطفال بحاجة إلى ملاطفات جسدية للبقاء على قيد الحياة، وتقل أهمية تلك الملاطفات الحسية تدريجيا مع نمو الطفل حيث يبدأ باستخدام مهارات التواصل اللفظي والغير لفظي.

حالات الذات   Ego States
عرَّف بيرن حالات الذات بأنها طرق التفكير و الشعور و التصرف التي يقوم بها الإنسان معاً في الوقت نفسه. اليوم؛ نستطيع أن نعطيها مفهوماً آخر، وهو: نتيجة العمليات التي تقوم بها شبكات من الخلايا عصبية المتخصصة في الـمُخ، وبفضل التقدم التكنولوجي في مجال التصوير العصبي صار بإمكاننا رؤية هذه الشبكات.

     قام بيرن بتحديد الشبكات التي تتطور في الحياة الباكرة للطفل وأطلق عليها حالات ذات الطفل، وعندما يتم تفعيل وتنشيط إحدى هذه الشبكات يتصرف الإنسان كالطفل الذي كأنه من قبل، وبالمثل، عندما تنشط شبكات الـمُربي أو حالات ذات المربي يفكر الإنسان ويشعر ويتصرف كما كان يفعل مُربيه أو مَنْ حل محله في الماضي. أما عن حالات الذات المسئولة عن التعامل مع الحال و الحاضر بطريقة منطقية غير عاطفية فهي حالات ذات الراشد. عندما تنشط شبكات الراشد، يقوم الإنسان بتقييم الواقع بموضوعية ويتخذ قرارات مبنية على حقائق واقعة، مع استبعاد عواطف وأفكار الطفل أو المربي لكيلا تؤثر سلبياً على تلك العملية.

متى يتم التعرف على أحد حالات الذات لأول مرة، يصير التعرف عليها من جديد أمراً سهلاً، وهذا التصور يتيح لنا طريقة لوصف التفاعلات بين حالات الذات لدى الإنسان نفسه أو بين أُناس مختلفين.

     لكل تفاعل قِسـمان: مؤثر و استجابة. غالباً يكون التفاعل المفرد جزءاً من سلسلة من التفاعلات، يتيح لنا تحليل هذه السلسلة أن نقوم بالتمييز بين عملية التواصل الناجح والغير ناجح، وأن نُعاين كيفية اكتساب الناس للملاطفات، وكيفية قضاء أوقاتهم، وعلاقاتهم وارتباطهم بغيرهم، وكما سيتم الحديث عنه لاحقاً، فإن الألعاب وسائل مميزة للتعامل مع الناس وإنشاء العلاقات بينهم.

تحليل الألعاب   Game Analysis
     في “ألعاب يلعبها الناس” يصف بيرن اللعبة بأنها سلسلة مرتبة ونمط متوقع من المعاملات، تكون معقولة في ظاهرها ولكنها تخفي في باطنها دوافع كمينة غايتها الوصول في النهاية إلى نتيجة محددة ومتوقعة. الألعاب أيضاً هي وسائل اعتيادية، ولكن خبيثة، يتخذها الإنسان لاكتساب الملاطفات من الناس، وهم غير مدركين حقيقة أنهم جزء من اللعبة التي يُدبِّرها، ولذلك فهم بعض الناس أنها حيل وليست ألعاب، ولكن بالطبع لم يكن بيرن يقصد القول إن الإنسان يقوم بخداع الناس والتلاعب بهم على وعي وتعمد أن يوقعهم في هذا الموقف المُربك، كما يُقال في المثل الشعبي اليوم: “إنه يلعب بعقول الناس!”.

     توقع بيرن أن يتطور مجال تحليل الألعاب تدريجياً مع التوسع المستمر في المعرفة، فقام بوضع ستة عناصر نظرية أساسية لتحليل الألعاب، كما وضع كذلك عدة أنظمة لتصنيفهم، وهذه العناصر هي: الافتراض، الهدف، الأدوار، التفاعل، المثال، والتصرفات، وإذا تحققت هذه العناصر توجد النتيجة. ثم لاحقاً في عام 1972، وضع بيرن معادلة أساسية لوصف أي لعبة، واعتبر أن أي سلسلة من المعاملات تتوافق مع تلك المعادلة فهي لعبة، ولا تكون كذلك إذا حادت عنها. أما المعادلة فهي كالآتي:
خ (خدعة)   +   س (سذاجة)   =   ج (استجابة)      ت (تحول)    ن (نتيجة)

الـ خدعة هي أول خطوة يقوم بها البادئ باللعبة، شخص “أ”، و (ش) هي الـ سذاجة هي التي دفعت الطرف الآخر، “ب“، لأن يقع في خدعة “أ” ويستجيب لها، (ت) تمثل تحول “أ” من حالة ذات إلى حالة أخرى، و (ن) هي الـ نتيجة، وهي شعور مفاجئ يشعر به “أ”. للتوضيح أكثر، دعونا نستعين بمثال “چـونـي”، الطفل الكاذب:

     عندما كانت أسرته تشرب القهوة حول طاولة المطبخ, ظل چـونـي ذو الخمسة أعوام يجري داخلاً و خارجاً من  و إلى الغرفة, و هو يجر سيارته اللعبة المفضلة خلفه, فجأة يسمع الكل صوت شيء ينكسر في غرفة المعيشة, فذهبت امه لتتفقد الأمر, و إذا بها ترى زجاج الزهرية متناثراً على الأرض إثر سقوطها من على الطاولة. سألت الأم الطفل”من فعل هذا؟” فـرد الطفل “الكلب”, فاحمر وجه الأم غضباً فهي متأكدة أنها قد قامت بإخراج الكلب من المنزل قبل خمس دقائق, ثم ضربته قائلةً “لا أقـبل أن يكون لدي ولد كاذب!”

     لقد كان أمراً واضحاً و بديهياً أن الطفل هو الذي قام بكسر الزهرية, ولكن سؤال الأم “من فعل هذا؟” يعتبر ظاهريا خطوة تقليدية يقوم بها الإنسان الراشد للاستفسار عن حقيقة ما, و لكن في باطنه, و من منظور علم النفس, فهو دعوة للطفل لأن يكذب, و قد كذب بالفعل. عند احمرار وجه الأم كان ذلك تحولاً من حالة ذات الراشد إلى حالة ذات الـمُربي, و كانت النتيجة النهائية هي شعورها المفاجئ بحالة من الغضب. في المثال السابق, لعبت الأم لعبة يسميها بيرن :
“الآن تمكنت منك يا ابن العاهرة!” أو:
“Now I Got You, You Son of a Bitch!” (NIGYSOB)

     و لكن يجدر بالذكر أن ألام لم تتعمد أن “تتمكن من ابنها” لتضربه, بل على العكس, ما دفعها على ذلك هو الارتباك و الغضب نتيجة كذب الطفل, الذي يمكن القول أنه هنا قد لعب لعبة: “اضربني!” أو “Kick Me!” . لو صدق الطفل وقال “أنا الذي كسرتها” من البداية, لم يكن هناك لعبة.

تحليل الألعاب منذ عصر بيرن
في أواخر السبعينات, قدم الأخوان بوب جولدنجز و ماري جولدنجز أحدى أوضح الطرق لتحليل الألعاب, فوصفوا اللعبة أنها تتكون من النمط التالي من التفاعلات:

  1. شخص “أ” يقوم بإيصال رسالة ظاهرة و في نفس الوقت يوصل رسالة مستترة للشخص “ب”
  2. شخص “ب” يستجيب للرسالة المستترة
  3. عندها يقوم “أ” بالتحول من حالة ذات إلى أخرى و يتنابة شعور سيء مفاجئ.

بتطبيق ذلك على سيناريو چـونـي وأمه نستطيع أن نحلل تلك اللعبة كالآتي:

الأم (أ): “من فعل ذلك؟” و هذه الرسالة الظاهرة, و هي على المستوى الاجتماعي مجرد سؤال يسعى لكشف حقيقة ما, ولكن على المستوى النفسي, فهي تحمل أيضاً رسالة مستترة ألا و هي دعوة الطفل للكذب.

چـونـي (ب): “الكلب” هنا يجيب چـونـي على الرسالة المستترة.

الأم (أ): يحمر وجهها إذ تقوم بالتحويل بين حالات الذات و ينتابها شعور سيء مفاجئ (الغضب).

     ذكر الأخوان جولدنجز أن الألعاب يتم تسميتها تبعاً للشعور الذي يحمله البادئ بها, أو النتيجة التي يصل إليها في النهاية, و لذلك في موقف چـونـي و أمه, بما أن الأم هي التي بدأت اللعبة و أنهتها بشعورها بالغضب و عقاب الطفل بعد أن كشفت كذبته, أطلقنا عليها لعبةNIGYSOB  كما ذكرنا سابقاً, أما چـونـي, فأطلقنا على لعبته اسم “اضربني!” أو “Kick Me!” و انتهت لعبته بشعوره بالضرب.

فكرة مثلث الدراما
في أواخر الستينات ,واستكمالاً لدور بيرن في تحليل الألعاب, ذكر ستيف كاربمان أنه في أي دراما لا بد من وجود ضحية, و لكي توجد ضحية لابد من تواجد منقذ أو مؤذٍ, ولكي تستمر الدراما تظل شخصياتها في التحول بين الأدوار بالنسبة لبعضها البعض، و قد تتدخل كذلك شخصية من طرف ثالث، و بذلك ينشأ مثلث درامي من التفاعلات.
كذلك الحال في الألعاب، فهذه الأدوار يقوم بها من يشارك في اللعبة و قد يتبادلونها فيها بينهم، فقد يتفاجأ شخص يلعب دوراً ما عندما يجد نفسه يلعب دورأ آخر. ففي مثال چوني وأمه، لعبت الأم في البداية دور المُنقذ، ثم تحول دورها إلى الضحية، ثم في النهاية كانت مُؤذية لـچوني (الضحية الجديدة). أما چوني فتحول دوره من المؤذي لأمه في البداية إلى دور الضحية عندما عاقبته أمه.
في منتصف السبعينات، لاحظت تشيف و أتباعها أنه أثناء لعب لعبة ليس بالضرورة أن يستخدم الشخص حالات ذاته كلها، و بالرجوع مجدداً إلى مثال چوني وأمه نرى أن الأم قد استخدمت حالتي الراشد و المربي، أما چوني فاستخدم حالة ذات الطفل، و بجمعها معاً نرى أنهم قد استخدموا الحالات الثلاثة معاً وكأنهم إنسان واحد متكامل. وبالمناسبة، إذا قام چوني و أمه بتكرار هذه اللعبة مجدداً أكثر من مرة، فچوني في خطر أنه بدلاً من أن يكبر و قد تعلم معاتبة نفسه و الشعور بالذنب تجاه أخطائه فسوف يكبر و يلازمه شعور الإذلال من أصحاب النفوذ، سواء الذين الذين يسعى لإرضائهم، أو ينتهي بإحباط آمالهم، أو يقوم بخداعهم، و مع ملازمة ذلك الشعور فهو يفشل في تطوير شبكات الراشد و المربي عنده.
عندما يبدأ شخص بلعب لعبة, يقوم باستبعاد التفكير في حقيقة ما، و يوجد أربعة أصناف من الاستبعادات: الأول: استبعاد التفكير في وقوع مشكلة، الثاني: استبعاد التفكير في مدى خطورة المشكلة، الثالث: استبعاد التفكير في أن المشكلة قابلة للحل عن طريق شخص ما، الرابع: استبعاد التفكير في أن المشكلة قابلة للحل عن طريق أي أحد.
قامت والدة چوني باستبعاد التفكير في حقيقة وجود الكلب خارج المنزل، حيث كانت ترى چوني متلبساً بفعلته و ترى حطام الزهرية على الأرض بجواره، كما استبعدت التفكير في حماية طفلها من حطام الزهرية كما ينبغي، فكان من الأفضل أن تقول “ابتعد عن الزجاج وإلا جرحت نفسك!” أو “اذهب فأحضر المكنسة!”.

الألعاب في مضمون السيناريوهات 
في عام 1979, قام ر. ج. إرسكين و م. ج. زالكمان بتوسيع فكرة بيرن أنَّ ناتج اللعبة يدعم موقف الإنسان الوجودي, ذلك الموقف الذي يتخذه الإنسان تجاه نفسه و الآخرين, بالإضافة إلى القرارات التي يتخذونها في سيناريوهاتهم, و تعريف الـسيناريو أنه عبارة عن سلسلة مستمرة من الألعاب المتكررة و النتائج التي تترتب عليها. يذكر بيرن لاحقاً في هذا الكتاب كيف يمكن بسهولة أن تتحول لعبة “المديون” إلى نظام حياة كامل.

     قد تكون والدة چوني انتهى بها الأمر لتظن من جديد أن الناس (أو الرجال) ليسوا أخياراً و أنهم يسعون للكذب عليها, و بالتالي تقوم بمراجعة قراراتها من جديد و موقفها تجاه نفسها و الآخرين و ما الذي تتوقعه من البشر. بالتأكيد لا بد من مراجعة هذه النظرية بحذر و إلا فهي مجرد تخمين و تكهن. من الممكن أيضاً أن تتعمد الأم بخلق مواقف ينتج عنها أحاسيس سلبية أكثر تجاه ابنها, فتستغل هذه الأحاسيس لتتقدم في السيناريو الخاص بها, مثل أن تتخذها مبرراً لأن تكره چوني و أن ترغب في التخلص منه أو الابتعاد عنه, و بالتالي قد تطلب الطلاق من والده لتحقق ذلك, مثلاً, و حينها لن ينتابها الشعور بالذنب تجاه ذلك, في تلك الحالة يمكن أن نطلق على ذلك “الابتزاز العاطفي”. فالأم تستغل محنتها لتجني منها “جائزة” في النهاية, تماماً كمتاجرة الطوابع.

     تُظهر بعض التسجيلات المصورة لأطفال دون سن الثالثة و أمهاتهم أن بعض الألعاب يتم القيام باكراً في الحياة, و على الأرجح يتم تسجيلها في ذاكرة الطفل الضمنية كأنماط معينة من التصرفات, حتى قبل أن يبدأ الطفل بالكلام, و كما يذكر بيرن: أننا نقوم باستمرار بتعليم أطفالنا أن يلعبوا بعض الألعاب, و  بالتأكيد فإن السيناريو السابق ذكره بين چوني و أمه ربما يكون الأخير من سلسلة طويلة من المعاملات المطابقة, التي يتعلم منها چوني كيف يلعب “اضربني!”.

     في 1977, ذكرت فانيتا إنجلِش أن الألعاب تنشأ عندما لا يجد شخصٌ ما شخصاً آخر ليعطيه ملاطفات مماثلة للتي كان ينالها في طفولته الباكرة  للتعبير عن الأحاسيس التي تبرر أحاسيساً المحرمة (“الابتزاز العاطفي”), و نتيجة لذلك يقوم بالتحول بين حالات الذات, و استنتجت أن هناك 3 أنماط كبرى فقط لذلك:

  1. NIGYSOB : حيث يتحول الشخص من حالة ذات الطفل البائس أو العاصي إلى الـمُربي.
  2. اضربني: حيث يتحول الشخص من حالة ذات الـمُربي المُساعد أو المتسلط إلى الطفل.
  3. الاهتياج: حيث يتحول كلا الطرفين بين الحالات في نفس الوقت.

 

وصفت إنجلِش أيضاً كيف يقوم الناس أحياناً بلعب ألعاب لإثبات موقفين وجوديين مختلفين, على سبيل المثال؛ قد تلعب والدة جوني NIGYSOB التي تدعم موقف “أنا على ما يرام, أما أنت فلا!”, ثم تحت الضغط قد تتحول إلى “اضربني!” التي تدعم موقف “أنا لست على ما يرام أما أنت فبلى”.

     في يومنا هذا, يمكن اعتبار هذا مثال لشخص يدعم مجموعتين مختلفتين من المبادئ التنظيمية الأساسية: واحدة في الذاكرة الصريحة (“أنا على ما يرام, أما أنت فلا”) و أخرى أكثر عمقاُ في الذاكرة الضمنية (“أنا لست على ما يرام, أما أنت فبلى”), و في هذا الشأن, و بعد أن تم نشر كتاب “ألعاب يلعبها الناس”, تحدث بيرن عن الـ “الثياب السيكولوجية”, قد تقرأ على الثوب من الأمام شيئا مثل “أحِبَّني من فضلك” و لكن عندما يستدير صاحب الثوب, قد تقرأ على ظهره “ليس أنت, أيها الغبي”.

    أكَّد س. شتـاينر على أن الألعاب هي الاستراتيجيات التي تسعى لنيل الملاطفات الضرورية للبقاء السيكولوجي لدى الراشدين, و بشكل عام تكون تلك الأخيرة في نقص مستمر بسبب القواعد الاجتماعية و الداخلية الكابحة التي تحول بين الناس و تبادل الملاطفات بحرية.

الألعاب في مضمون الجماعات الكبيرة
حديثاً أشار شارلوت سيلس إلى أنه عندما يقوم شخص بتكرار نفس اللعبة وسط مجموعة من الناس فربما يمثل ذلك مشكلة إنسانية قد لا تلقي المجموعة اهتماماً لها, فمثلاً, إن شخصاً يلعب لعبة NIGYSOB  أو لعبة “التشويه” (Blemish) قد يكون مُعبراً عن تجنب المجموعة – الغير مُبَرر – التعاملَ مع مشكلة إنسانية وهي مشكلة الثقة في الآخرين بشكل عام.

التحليل التفاعلي اليوم و غداً
اليوم يُستخدم التحليل التفاعلي و تحليل الألعاب في مجالات متعددة, منها العلاج النفسي الفردي أو الجماعي, الإرشاد النفسي, التعليم, و التطوير التنظيمي؛ و اتضح أن التطورات المعاصرة في علم الأعصاب Neuroscience تثبت صحة مفاهيمه الأساسية و تدعمها, خصوصاً ما تم تناوله عن الملاطفات و حالات الذات, فهي الأقوى إثباتاً, و لكنها تبقى مجرد أُسُس ابتدائية جداً لعلم التحليل التفاعلي, والذي بمعاينة النتائج و مدى رضا المرضى عنه, اتضح أنه ذو فعالية كبيرة,  و لكن في الوقت الحالي يوجد ثورتين في الصحة النفسية على صلة مباشرة بالقرن الواحد و العشرين: السيكولوجيا الإيجابية و Mentalization .

     تَجَددَ مؤخراً الاهتمام يبعض الظواهر الإنسانية كالامتنان, الأمل, التفاؤل, التدفق, التفتح الذهني, و المَوَدَّة, و دورها في الحياة الناجحة و التعمير, كانت تلك الظواهر مهمة في حركة السيكولوجيا الإنسانية في الستينات من القرن الماضي و مع ذلك فقد نالت قليلاً من الاهتمام و البحث من مؤيدي تلك الحركة في ذلك الوقت. أما اليوم فالبحث فيها لا يزال مستمراً, و يتم باستمرار ملاحظة حياة الراهبات, طلبة الجامعات, و غيرهم و دراستها مع توقع الاحتمالات المستقبلية و مقارنتها بالنتائج الماضية.

      السيكولوجيا الإيجابية – كذلك تسمى تلك الحركة حالياً – كانت دائماً و ما زالت عنصراً هامَّاً في التحليل التفاعلي, و ذلك بسبب تركيز بيرن على اهمية اكتساب الملاطفات أو التواصل بالطرق الشرعية, و على الاستقلال (الحكم الذاتي) و الشعور بالخير و الراحة, و ذلك يتجلى في يقظان الوعي و العفوية و المودة, بالإضافة إلى رغبته أن يساعد الناس أن يُحرروا أنفسهم من لعب الألعاب و السيناريوهات المُهلكة.

     أصبح العاملين في مجال الصحة العقلبة اليوم يُـقَدِّرون أكثر أهمية أن يتصور الناس أنفسَهم و الآخرين بأنَّ دوافعهم تنبع من أحوالهم الداخلية و أفكارهم و مشاعرهم, و يسمى ذلك “التعقل السيكولوجي” أو “الذكاء العاطفي” أو “Mentalization “, و هو أساس التعاطف و المهارة الاجتماعية, و أحد أهم جوانب المرونة السيكولوجية, أي التعامل مع الضغوطات.

     لاحظ بيرن التفاعلات بين الناس و بعضهم ووصفها بطريقة سهلة و جذابة, حتى أنه استخدم اللسان العامي أحياناً, و ذلك أتاح للناس أن يحكموا على مدى منطقية تصرفاتهم و أنَّ بإمكانهم تغييرها, و هو الأهم, و كل ذلك في إطار التعقل السيكولوجي, و ذلك ما كان يقصده هاينز ليمن عندما أخبرني عن هذا الكتاب أنَّ “مؤلفه قد أعطى عجلة القيادة للطب النفسي”, و هذا هو السبب الذي كان و لا يزال وراء انجذاب الناس لهذا الأسلوب.

     إن الكثير من الأفكار التي ظهرت لأول مرة في “ألعاب يلعبها الناس” قد نال قبولاً كبيراً في يومنا هذا, حتى كدنا ننسى من أين نشأت. من ناحية أخرى, لقد قام علم التحليل التفاعلي بإدماج أفكار و تقنيات متعددة من مجالات أخرى, و لا يزال ممارسية يتوسعون و يقدمون التعديلات على أفكار بيرن الأصلية, و بفعل ذلك فهم مُلهمين بمقولة بيرن الشهيرة “أنا لا أقوم بالعلاج الجماعي, بل أنا أشفي الناس”.

     إن هذا الكتاب هو من النوع الذي قد يقرأه الواحد منا مراراً و تكراراً دون أن يمل منه أبداً. شخصياً, كلما أعيد قرائته تنتابني الدهشة من جديد  تجاه حدس بيرن الدقيق و فطنته في الملاحظة الطبية, و كيف أننا لا نزال ندين له ذلك الفضل والمنفعة إلى يومنا هذا.

     ولهذا فأنا أرحب بك، عزيزي القارئ، في هذا العمل البديع.

     لمن يسعى لمزيد من المعلومات حول التحليل التفاعلي بإمكانه زيارة موقع الاتحاد الدولي للتحليل التفاعلي www.itaaworld.org